أبناء الكرك
يا مرحبابكم ... الدار داركم ... المنتدى نور بوجودكم
أبناء الكرك
يا مرحبابكم ... الدار داركم ... المنتدى نور بوجودكم
أبناء الكرك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى لالتقاء شباب الكرك
 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ابراهيم الضمور ..والد الذبيحين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عمر الضمور
المدير
المدير



عدد المساهمات : 67
نقاط : 5452
تاريخ التسجيل : 09/07/2010
العمر : 42

ابراهيم الضمور ..والد الذبيحين Empty
مُساهمةموضوع: ابراهيم الضمور ..والد الذبيحين   ابراهيم الضمور ..والد الذبيحين Emptyالسبت يوليو 10, 2010 3:15 am

]منقول من مدونة الكاتبة الفاضلة : سهام البيايضة
ابراهيم الضمور ..والد الذبيحين

على سفوح جبال الشراة المطلة على قلعة الكرك المهيبة ,لا يزال المنظر المتجدد عبر السنين يملأ القلب ذكريات عميقة, تشتد بها عزيمة البقاء الأزلي للمجد والفخار المتربع فوق سجل التاريخ, تربع القلعة فوق الجبال الممتدة عبر الجنوب ..
أهزوجة تضحية, تحكي قصة التحام المصير ونخوة الرجال, غربي النهر وشرقيه, نستذكر من خلالها أمجاد الأجداد, وننفض عنها غبار الأيام ,و نمد يد التاريخ المشترك, وتلاحم المصير بين شعوب عربية, اعتبرت التضحية بالمال, ابخس من أن تكون مسألة, أمام دعم الرجال للرجال . ..فلا أغلى ولا أعظم من دم الأولاد المرشوقة بها أحجار القلعة.
على سفوح الكرك تنبت أشجار الزيتون تحاكي أشجار الزيتون في نابلس والخليل, وتعانق جبال الشراة, الجبال الغربية عبر سهول الغور, وسهل مرج بن عامر على أطرف جنين ويعبد ,تستظل تحت أغصانها أرواح الذين سكنوها,مستأنسين بالأفق الممتد إلى عكا ويافا, تلامس سهول مؤتة وشيحان,و يشهد على صدق الانتماء شهداء المشهد في مؤتة عبدالله بن رواحه ,زيد بن حارثة وجعفر الطيار.
أينما وقع نظرك تأخذك قشعريرة ,تستحضر, أرواح الذين مروا من هنا عبر التاريخ, تسمع صهيل خيولهم وضرب المجانيق, وزغاريد النساء فوق أبراج القلعة, ترافق صعود أرواح الشهداء في الكرك, وعلى أبواب القدس ,وفوق جبل النار.
ملحمة المصير الواحد الممتد في أفق السماء ,بين الكرك والخليل وبين نابلس والسلط ,تقف اليوم ذكرى وسطور عز وتضحية ,أمام شرذمة الغازي وانحراف مسارات الجهاد والحق, نستذكر العبر لتتوحد النفوس عبر معاناة وصبر الأجداد والجدات.
لم يجد قاسم الأحمد في مخيلته التي تمرست الرجولة, وفهمت مقاصد الرجال, إلا الكرك عرين المقاومة ومصد الظلم , .لتكون مقصده, يدخلها آمناً,محتمياً بالأهل, وأصحاب العهود, الحامين لعقائد الآباء, الحافظين إجارة الدخيل, ومن تقطعت بهم دروب الأمان, ليكونوا سندا وملاذ, يستجار بهم في أوقات الشدة وضيق المواقف.
وصل قاسم الأحمد الكرك عام 1832 م,قاصدا الشيخ إبراهيم الضمور, الذي اشتهر بالمقاومة هو وشريكه, إسماعيل ألمجالي.والمشهور" بالشوفي" رفيق الدرب والمقاومة , يتصديان معا لقرارات الظلم التي كان العثمانيون, يلقونها على أموال الناس, وأرواح العباد وأقدارهم, وفي قوت يومهم, ضرائب يسلبون فيها كرامة الناس ويخضعونها لأحكام الرجل المريض الذي تهاوت أقداره, وتلاشى عزمه, ولم يبقى منه إلا رائحة نتنه, تزكم أنوف الأحرار, وتثير نفوس الأشاوس الرافضين لنير الظلم والاحتلال.
وصل قاسم الأحمد, الكرك يبحث عن بيت إبراهيم الضمور, لم يكن هناك احد في البيت,إلا زوجة إبراهيم "عليا" ,بعصبتها الكركية,وقفت ترحب بالدخيل ,تستقبله, استقبال الحرائر أخوات الرجال ,اللواتي خبرن روح العادات, وعرفن فنون الضيافة بنخوة الأصالة وعراقة الموروث.
أفصح قاسم الأحمد أن دخوله إلى بيت الشيخ إبراهيم ,يطلب حمايته من ظلم إبراهيم باشا, فما كان منها إلا أن أجلسته مجلس البيت, لينتظر قدوم الشيخ إبراهيم, وتقوم بهذا الأثناء, بأصول الضيافة والواجب, تجاه" ضيف الرحمن", الذي وصل إلي مأمن البيت وأهله بسلام.
كان قاسم الأحمد, احد أهم, زعامات جبل نابلس ,يتعهد الضرائب للدولة العثمانية .يتوكل دفعها عن الناس ويحمي مصالحهم من أن تتصادم, مع عسكر العثمانيين الذين وجدوا بأسلوب, التعهد هذا وسيلة لضمان وصول واردات الضرائب للأستانة كاملة غير منقوصة, من خلال قيادات محليه, تخبُر الناس وأحوالهم, وقادرين على التعامل معهم, يكفونهم, ويتحملون مسؤولية جمعها ,ويسهل الوصول إليهم, على اعتبار أنهم زعماء وشيوخ المناطق من الصعب اختفائهم وعدم التعرف عليهم.
كان قاسم الأحمد,ابن الأرض وحامي العرض مؤتمناً .على أهله وناسه وحافظا لكرامتهم غير مقصر في ردع الظلم والتصدي لخفايا الأمور التي جهلها عامة الناس المشغولين بمعاش الأولاد وتدبير كفاف يومهم ,فكان ممن سطر التاريخ سيرهم بالفخر والتضحية ,والغيرة على الأرض والناس.
لم تخلو, سير التاريخ والشعوب المنهوبة من زعامات, الدم الواحد التي زادت الطين بله, وامتصت دماء الناس وكانت عضد الظلم ونير الاحتلال, التي سنت على الرقاب ,فكانت أكبر من الظلم نفسه وأقرب من الانتقام نفسه,تُفصل الناس وتصنفهم تحت أسماء الاستعباد والسخرة ,وترسم بيدها القريبة اسطر الذل والقهر,فكلما أطيح منها برأس كانت الرؤوس تظهر من جديد ببأسها وجبروتها ,وتصنيفات الناس ذاتها.
قدر يلازم مصيرنا العربي, غرباء عن الأرض يمارس الظلم فوقها بيد ذات الجلدة..لتكون حاكم وجلاد متجدد, متولد,.يذهب ثم ما يلبث أن يعود من جديد, بلباس وبوجه آخر, لكن القلب واحد والغاية واحدة.
مصائر تلازم مجتمعاتنا,و يد الاحتلال والاغتصاب والاستغلال, تبرع في التلون والتغير والأسباب,يقف لها الأبناء الأوفياء للتاريخ والأرض, تهز صيحاتهم ,عروش التسلط والظلم ,وتحتوي إرث الآباء وكرامة الأهل, وحرمات العقيدة, لتبقى ذكرى الرجال الأوفياء, الأمناء على أمتهم وتاريخها, منارات عز, تزين جبهة الشعوب وتاريخها, تقدم الأبناء, وتضع أكاليل غار على مواكب المقاومة والشهادة.
مع ازدياد أعراض مرض الدولة العثمانية, كانت الحاجة إلى المزيد من النفقات على حساب أموال العرب, وقوتهم.فلم يجد الناس في تلك المناطق, مناص من هذه القوانين الجائرة التي كان أشهرها ضريبة "العشر", التي , تقتطع عشر ما يتم إنتاجه من المحاصيل وخير السنة, في ظل إنتاج شحيح يعتمد على وسائل بدائية, وزراعة تعتمد على مياه الأمطار في مناطق شح مطرها وندر.فعانت البلاد والعباد من مجاعات, وانتكاسات العيش في ظل دولة, قتلت روح الإنتاج, وتأخذ غلال السنوات, كفاف الناس وحاجتهم للعيش. فضاق عيش الناس وكثرت الثورات وصيحات الرفض, في الكرك شرقي النهر , وجبل نابلس غربي النهر في ثورة دائمة,تدافع عن حق الناس في العيش والكرامة, أمام جشع , المحتل وسيطرة القانون العثماني.
إبراهيم الضمور ورفيقه إسماعيل ألمجالي, وآخرون معهم, في الكرك, وقاسم الأحمد وآخرون أيضا يحملهم التاريخ , في نابلس وجبل النار,يتوكلون أمور الناس عن الناس, ويؤمنون على أرزاقهم ,فزاد الإنتاج .وانتشرت أشجار الزيتون وقطعان الأغنام حول الحقول والروابي, ونعُم الناس ب شيء من الاستقرار, ساعدهم على جني الزيتون وصناعة الجبن النابلسي المشهور, وزيت الزيتون المصفى, تحت أحجار طواحين العصر.واستمتع الناس بخيرات البلاد وبالكنافة النابلسية التي شاعت شهرتها لأبعد من حدود نابلس.لكن, أعين الظلم والاستغلال لا تهدأ ولا تستكين, بل تزداد اتساعا, وتستقوي من جديد كلما ظهرت بوادر خير أو ترف , فتعود من جديد لتضع قوانين الجور والظلم, وتحرك نير الذل من جديد فلا يسع حماة الأرض, إلا أن يقفوا شوامخ لرياح السموم القادمة من الشمال.
كثرت, ثورات قاسم الأحمد في وجه الظلم , وتكررت جولات المقاومة ,فضاقت به حاميات إبراهيم باشا, التي أخذت تطارده وتقتفي آثره, لتخمد روح المقاومة بقتل زعيمها , وليكون درساً وعبرتاً لمن تسول له نفسه, التطاول على اسياده جامعي الضرائب وقاتلي همم الشعوب.
ما كان لقاسم إلا الاختفاء عن أعين الخونة ونخاسي الشعوب وضعاف النفوس, وباعة الزعماء لظلمة المواجهة وسواد الضمير, لتعلق مشانقهم على أبواب القدس وساحات الأسواق على مرأى من الناس.
عرف إبراهيم باشا بقسوته التي ورثها عن أبيه حاكم مصر "محمد على باشا", الألباني الأصل, الذي انفصل بحكمة, عن العثمانيين بعد خروج نابليون من مصر , تركاً فراغ سياسي كبير استغله "محمد على", لبسط نفوذه على مصر وبلاد الشام والسعودية حتى السودان,في ظل خلافة إسلامية انهارت وتهالكت,ربضت فوق الشعوب العربية, مدة تزيد عن 500 عام,انتهت بتراجع حكمهم وضعف سلطتهم ,عبر اتساع الخلافة التي دعيت" بالرجل المريض" كناية عن ضعفها وانحلالها ,وتركها لشؤون الشعوب الخاضعة لحكمها, وإهمالها إدارتهم, فسكنت في سبات من الجهل والتخلف في أوقات كان العالم حولهم, يثور ويضطرب’ يبحث عن الأرض والخيرات ,وهياكل لمدن بادت وانتهت , وطرق للتجارة والنفوذ, وأسواق لمنتجاتهم ,ومواد رخيصة لمصانعهم.ووقود يوفر لهم أسباب الرفاهية ويحرك اقتصادهم وحملات جيوشهم.
بقوة السلاح وبمشانق الأحرار والمقاومة, أخضعت أسرة" محمد على" البلاد والعباد لحكمها.كما عرفت عائلة "محمد علي", بكرهها الشديد للعرب, ونظرتها الدونية لهم, وبأنهم أعراب, لا يستحقون العيش ولا الحياة, وأنهم غير جديرين بحكم أنفسهم, حيث استولى على حكم مصر, وأعطى الحق لنفسه- كونه الباني -, بحكم بلاد الكنانة بحد السيف والجبروت.واستغلال أبناء البلاد وإجبارهم على الخدمة العسكرية لتحقيق أطماعة التوسعية في البلاد العربية, ولا تزال قلعة "محمد على" في القاهرة شاهدة على مجازره التي نفذها في قيادات مصر, حين دعاهم لاجتماع هام في القلعة, وقام بإغلاق أسوارها لينزل فيهم القتل, حتى تخلص منهم جميعا, متفردا في السلطة والنفوذ على مصر.
غريب هذا القدر الذي يرافق العرب على مدار التاريخ!!, وكيف نصبح بسهولة لقمة سائغة, في فم المستعمر والأغراب, الباحثين عن الأمجاد فوق هياكل الشعوب. يتداولون السلطة و مصائر الناس تداول الممتلكات والأموال, يزرعون الظلم وأدواته, فلا مناص من شرائع الاستغلال لتكون منهجا يورثه أباء السلطة للأبناء, يوطنون الظلم’و ينشرون أعوانه بين الناس .
كمثل الأب"محمد علي", الابن إبراهيم باشا, استكبر وظلم وقتل بدون رأفة أو شعور.غايته تمكين حكم أبيه" محمد علي", الذي فتح شهيته على العالم العربي فأرسل ابنه ليفتح بلاد الشام وليقيم المشانق و الحرائق, لكل المقاومة, حتى لا يقف احد في مد سلطانه.ولم تسلم البلاد العربية من تسلط الباشا, لا في دمشق ولا في القدس ولا حتى في مكة المكرمة إذ تصدى لثوراتهم التي قامت على أراضيهم ,فوق رمالهم, يسكت المقاومة ويسن سيفه على رقاب أهل البلاد وتبدأ مطاردات شيطانية خلف قيادات وزعامات البسطاء في الأرض ,تسكت صوت المقاومة وتضع نير الظلم فوق رقابها ظلما وقهرا كعادتهم.
حقد ونظرة تصغير للعرب, ولزعاماتها المقاومة ,واستهجان لروح الصد عندهم ,فلا غير المشانق لمن تسول له نفسه أن يقول لا,تلتف حول عنقه حبالها, أو تسنده يد الغدر على حائط ,تصوب رصاصة لرأسه, أو ينفذ حكم الإعدام رتل من عسكر, يطلقون وابل من الرصاص يخترق جسده ,لتؤكد موته عشرات المرات, أمام الابن والأخ والزوجة , يريدون قتل مصائر الناس وأمنياتهم ,لإلصاقهم بغبار أحذيتهم فلا يقوى أحد بعد هذا المصير إلا تنفس الاحتقار .
تزداد مشاهد القتل بشاعة واستخفاف عندما يدفع الحر العربي, من فوق أسوار القلعة متدحرجا بجسده النحيل الذي أذابته سنين" المحل" والجوع, نزولا حاداً وطويلا, عبر سفوح الوديان السحيقة تصل بقايا عظامه, قاع الوادي فلا تجد الوحوش والضواري ما تلتهمه.
قدر ومصير كتبة عتاة الشعوب وقاتلي أحلامها منذ زمن طويل..لتتجدد مشاهد التاريخ مشانق, إليها يجر الأحرار بالخيانة.والمعدن الأصفر.

دخل الشيخ إبراهيم ساحة بيته ليجد قاسم الأحمد ينتظر قدومه, بلهفة المستجير ,فاحتضنه مرحباًُ به باشاً,يعطيه الأمان ويجيره, ويطمئنه على حياته,وأن مصابه , مصاب الشيخ وأهل بيته.
-" وصلت!!..وصلت يا الأخوو..وصلت .!!
كرم وترحيب, بدفء الأخوة, أحاط الشيخ إبراهيم أجيره قاسم الأحمد , يشد من عزم الضيف الأجير,جموع الرجال الذين تدافعوا للسلام على الضيف الكريم والاستماع إلى بطولاته في المقاومة, يتنافسون في تقديم الولائم واستضافته في بيوتهم ,يعززون أفعاله بالثناء والذكر الطيب ,يحيطون حوله "عزوة" كركية,تخفف عنه غربة الوطن واحتقان الأجواء,المشحونة بعيون ترصد حركته وتنقلاته, يندسون بين ساكني القلعة, والمحتمين بأسوارها الملتفة حولهم مدينتهم ....وار محكم, تحيطها أودية سحيقة, منعت وصول المعتدين, وتقهقرت على أبوابها جيوش وأطماع,لكنها لم تمنع النفوس الرخيصة من دخولها تبحث عن صيد ثمين بثمن بخس.
عيون الغدر لا تنام ولا تهدأ, تراقب وتطارد قاسم الأحمد إلى الكرك .تنقل أخباره وتنقلاته إلى إبراهيم باشا الذي وصلته أخبار قاسم الأحمد,وان الشيخ إبراهيم الضمور أجاره ,وبخبرته العسكري يعلم أن الكرك عصية عبر التاريخ ,لا تذل لها راية, ولا يقبل أهلها بالظلم, رجالها أشاوس ونسائها حرائر, لا ينام فيها ظالم ولا تعرف فيها مذلة, رجالها للموت يوم الوغى مستقبلين.ونساءها داعمة صابرة , اعتادت على مرابي, العز والنخوة,ترضع أطفالها قوة العزيمة, وجراءة الحق ,واستشعار المعاني المبطنة ,فلا تغيب عنهم شاردة ولا واردة,في سجاياهم حدة ,وسرعة استجابة, تسكن تحت نيرانها قلوب طيبة, للخير ساعية وللمكارم قاصدة.
أرسل إبراهيم باشا رسالة إلى الشيخ إبراهيم الضمور:
"إلى شيخ الكرك إبراهيم الضمور..تسلم الكرك، وتخضع ورجالك, وإلا أحرقت ولديك.
الإمضاء -إبراهيم باشا"
رسالة خطت بجبروت الطغاة, وغباء التعالي, وغربة الانتماء ومسافات تقطعت بين السلطة, بين الحاكم والمحكوم, يرسل من عليائه رسالة لرجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة,حاله حال الجميع , في بلاد ابتعدت عنها رعاية الدولة, وتقطعت أوصالها, و بقيت علاقة مفردة ضيقة أساسها سلطة وضرائب, غير مبالين لتبادلية العلاقة ,فلا مدارس ولا رعاية ولا اهتمام , سنوات من الإهمال في دهماء الجهل والمرض والفقر,فانتشرت الناس عبر الصحاري ترعي المواشي,في أراضي امتدت عبر حدود الخلافة العثمانية ,يزرعون حاجتهم, كفاف عيشهم, بعيدا عن ضرائب الدولة ,وانفلات الأمن عبر حملات الغزو بين القبائل , لتصحوا سلطتها من سباتها كل عام على موعد الجباية وتحصيل العشر,ثم تعود إلى سباتها من جديد.
حمل الشيخ الرسالة يبحث بين أهل الكرك عله يجد من يقرأها, فوجد رجل مصري استطاع أن يفك الخط ,ويخبره فحوى الرسالة الصريحة الواضحة:
- سلم الدخيل أو نحرق ولديك!!
كان اختطاف الأولاد ,صدمة كبيرة على الشيخ إبراهيم الضمور,لكن هول الصدمة لم يوقفه متخاذلا أمام التهديد.
جلس يمسك برسالة تهديد, خطت فوقها مصائر فلذات كبده ,في قلبه ووجدانه يسكن سيد وعلى ,وفي عقله وأمام كرامته إصرار وتحدي لا يخضع ولا يستكين,سيكون للشرف ثمن غالي ,ولأهل الكرك على مدار التاريخ, سيكون موقف.
حمل رسالة الظلم والتهديد يمررها أمام عيون الناس الدامعة, الذين صعقتهم قسوة التهديد.ونية إبراهيم باشا الجادة بقتل الأبناء, وإصرار إبراهيم على حماية الأجير. بعد أن أصبح الأولاد بقبضته.
سيد وعلي ..يا أشجار الدفلى بألوانها البيضاء والوردية فوق مياه" سيل الكرك" وينابيع" عين سارة" ..يا اخضرار عشب الروابي في ربيع المواسم..لا يزال "الدحنون" ينبت فوق رماد الحريق..يا صرخة لوعة فراق الأحبة, ارتفعت فوق أبراجها,أهازيج رثاء وتحدي. دمعت لها عيون الصبايا, وثارت لها عزائم الرجال, تطرز المعالي فوق عقال العز و كوفية الفخار.
سيد وعلى, يا شباب الكرك الممتدة عزائمهم إلى آفاق المجد والتضحية.. يا صرخة قلب "عليا" من فوق البرج التي ما وصلت تحذرهما من يد الغدر.
-"يا سيد …يا على…يا عيال .. البواق.!!", الغدر أسرع من خطوات "عليا", الأسر اقرب من جدائل "عليا".
فوق سهول الكرك القريبة من أسوار القلعة ,كان الشابان يتدربان على الفروسية والمبارزة, سيد :انظر القادمين يا علي..أغراب عنا..هل عرفتهم يا خووي؟
على وقد استشعر الحذر:هذول حامية إبراهيم باشا ..يا خوفي قاصدينا يا خوي يا سيد!
خيول وعسكر اقتربت من الشابين وقد أحاطت بهما من كل جانب,تفحص" سيد" الوجوه جيدا ,حمراء وصفراء وبيضاء من كافة الأقطار,عرب وشر.... وسوريون, والأغلب من مصر بقايا المماليك بلد إبراهيم باشا ,الذي هيمن عليه والده .كما هيمن على هؤلاء العسكر وجندهم في حملات ابنه لبسط نفوذه على العرب.إرادة أجنبيه بيد عربيه.
سيد, وقد اقترب من أخيه حاميا ظهره بظهر أخيه على:اصبر يا أخي ولا تخاف.
لا يزال العسكر فوق خيولهم يحيطون بهما يقتربون من كافة الاتجاهات مانعين الشابين ومحاصريهم,مقتربين أكثر ثم أكثر.
ترجل الضابط من فوق حصانه وتقدم باتجاه الشابين:اترك سلاحك يا ولد!.. إياكما والمقاومة نريدكما إحياء..يا عسكر أوثقوهما بالحبال ..بسرعة..إبراهيم باشا في انتظارنا.
فهم سيد وعلى مراد الضابط وغايته .وبكل قوتهما يحاولان الانفلات والتلويح بسيوفهما التي كانت اضعف من أن تقاوم حاميه مدججة بالسلاح والبارود.
, يضعهماالحامية الشابين وقد تصلبت أجسادهما, صبراً واحتساباً لقدرهما المحتوم, يضعهماا على محك مساومة الاعتزاز بالقهر ,الكرامة بالذل والمهانة ,بأدوات الغرباء, القادمين دائما من البعيد ,يحملون المقاصل والمشانق ووهج النار ,لا يعرفون دروب الحق في نفوس أصحاب الحق وشرفاء الأرض والعرض ,قاس جدا هذا الامتحان! !.
اجتمع أهالي الكرك حول الشيخ إبراهيم الضمور , لمعرفة الأخبار, والوقوف إلى جانب الشيخ المنكوب ,وقد تعالت أصوات الاستهجان ورفض الذل, والاستعداد للمواجهة, وتقديم العون والمساندة في هذه اللحظات الصعبة.
- يا شيخ إحنا فداك..وفدى سيد وعلي.للموت نسير وياك وما نهابه …إحنا لعيناك.!!..خلهم يدخلوا الكرك..سنلقنهم درس في الرجولة والصمود !!
لا مناص من الخيار الصعب, لم تتعود العرب تسليم الدخيل, لكن هذه المرة, حياة الأولاد أو العار الأبدي. قرار صعب, حمله إبراهيم الضمور لأم العيال, مخبراً إياها, مستطلعاً رأيها, عل هناك منفذ وسبيل,
"عليا" تُبادر الشيخ: حنا ما تعودنا نسلم الدخيل..في الأولاد ولا في البلاد يا شيخ ..الأولاد فيهم عوض, أما الشرف والنوماس .ماله عوض.!!
الشيخ وقد سكنت نفسه للقرار: "هذا امتحان صعب يا عليا..هذه الكرك ..يريدها ذل وخنوع .
"والله ما طاطيت عمري على الخنا ولا لذت على الجارات والبحار غايب"
الشيخ:إما الخلود وإما العار…العيال يا عليا.. هذا امتحان يا وقرار صعب!
"عليا" يا رفيقة الدرب,وأنيسة الأيام ,وحاملة هم الجميع, ومحتملة قسوة البادية, ترفلين ( بمدرقتك), بألوان الشمس طرزت أطرافها, وفوق راسك عصبتك الحمراء , تحيط بالوجه المضيء دائما, بابتسامة الرضا والقناعة ,تزينه مراجيع الوشم بسحر وجمال خاص.
"عليا"..رسالة الظلم دعتك لمواكب أمهات الشهداء..ترافقين الخنساء وتتعلمين صبرها .وتحتسبين أمرك, تجلسين في صدارة الموكب ترافقك الأمهات من الزمن البعيد الممتد إلى القريب القريب, تستقبلين أمهات كتبت الشهادة على دروب أولادهن من فلسطين ومن العراق ومن ارض الظلم العالمي والمقابر الجماعية..من رحم الأمهات يولد الشهداء وعلى تراب الأرض توزع دمائهم ,لتنبت حقول القمح, وتولد من جديد في كل الأزمنة وفي كل الأوقات أمهات شهداء ,ويوزع الدم من جديد فوق الحقول والشوارع .
"عليا" , تعلمين يا ابنة الحسب والنسب أن الأولاد مفارقين, يلوحون لك من بعيد ,يوصونك على الشيخ .يخبرك نبض قلبك أنهم غير عائدون.لان شرف الكركيات, وكرامة الرجال, تصرخ مستجيرة بحياة على وسيد..فهيهات اللقاء, وهيهات الرجوع! فراق ابدي..دون وداع ,دون أن يقبل" العيال" جبينك , او يقبلون أيادي الشيخ, خلاص الكرك في دماء العيال. أولادك يا عليا يعلمون, معادلة الشرف والواجب, سيرفضون غير ذلك سبيل…فليكن هذا السبيل,هيا .هيا ليعلم الباشا أن الموت خيار الشيخ و"عليا" لا خيار الظلم..اخبروا الباشا أن..اقتل!..اقتل!
يا عقال العز على هامة علي, وكوفية الأصالة فوق أكتاف سيد..لم تنتهي حوارات الحركة والرمز, وتواصل المعاني بين نبض الأم, وتقلبات مزاج الأبناء, تترجمها عيون "عليا" وتفهم منها القصد والنية, حديث العقال والكوفية والعيال و"عليا".لا يزال قائما رغم قسوة الحياة, والشدة في طلب العيش والرزق ,في ظل أجواء القبيلة على أطراف الصحراء,فلا زالت للرجال مع العقال حكايات , تترجم حركة الميلان, فتخبرك أن القلب عاشق منتصر( معنقر)في ميله إلى الجانب يكاد أن يسقط,أو على عجل من أمره :يميل إلى الخلف ,أو مفكراً,غارقاً في فكره : مائلاً إلى الأمام اقرب إلى عيونه ,أو غاضبا متحفزا: في وسط الرأس إلى الخلف قليلا, غاطسا في رأسه,يصعب سقوطه إذا اشتدت حركته.
معاني في أصالة الوجود, وبساطة الموجود, ليكون للأشياء قيمة و معنى وحاجة وغاية, تخلو من إضافات, لا مكان لها في رحلة تغير, المواسم والرحيل المتجدد وراء الرزق وعوامل البقاء.
محاولة أخيرة من أهل الكرك ..اجتماع ومشاورات وإجماع عام..يقررون فيه رفض تسليم الكرك ..ربما هناك نهاية أخرى غير حتمية القرار :
"يا شيخ حنا عزوتك جلايبك يوم المبيع
قوموا على المنايا العيب على اللي ما يبع"
سيوفهم مواضي وعزائمهم جبال ونيتهم إيمان وشهادة,مستعدون للموت .
الشيخ وقد خرج للناس بقراره الحازم: نار الباشا ولا نار الفضيحة والعار. اقتل، احرق، والله ما تدخل الكرك وإبراهيم الضمور حي، احرق وأنا أقدم لنارك الحطب والقطران…ليحمل الجميع السلاح ولتغني الصبايا ولتزغرد الأمهات..اليوم عرس ,سيد وعلي..يااا "عليا".ارفعي بيارق الفرح فوق ابراج القلعة. يا بنات الكرك زغردن ولينطلق البارود.
تجمع الناس على أسوار القلعة ينظرون إلى جحافل جيش الباشا إبراهيم, توزع سراياها على سفوح الجبال المحيطة بالكرك ..أصوات الناس تعالت مستنكره, غاضبة من مشهد الموت الذي تصدت له بكل ما أوتيت من عزم وقوة ..مستعدة للقتال وحماية النساء والأطفال واخذ الاحتياطات حول أسوار القلعة وحول المدينة.وعلى بابها المؤدي إلى ممر أسفل الجبل إلى داخل القلعة, يؤمن المدينة ويضبط الداخلين والخارجين منها.
على احد السفوح وعلى مرآي من الناس وحماسية القتال والحرب.أشعل الباشا إبراهيم نار عظيمة شاهدها كل من سكن الكرك ,يزيد فوق نارها الحطب والقطران . فتزداد وهجا وقوة مع أصوات الناس المكبرة, وزغاريد النساء فوق القلعة, والشيخ بين الناس يحثهم على الصبر, باحتفالية الموت ومواجهة القدر, وانتصار للشرف والعهد.
من بين أصوات الناس خرج صوت, وقع فوق سمع إبراهيم الضمور بتفرد, وكأن أصوات الناس قد همدت وما هي بهامدة:انظر يا شيخ هذا الباشا يلقي بسيد في النار.. العيال يا شيخ إبراهيم!!
وقف الشيخ إبراهيم يصرخ بأعلى صوته يمنع دمعة العين ويحجر نزولها:
-" يا النشامى..يا النشميات ..زفوا سيد يا ناس زفوا العريس غنوا..غنوا..كبروا..الله اكبر..الله اكبر!!
كانت أصوات الناس تطال قهر واستفزاز الباشا وتزيد من ....ر أشواك الذل.ثم يأتي صوت آخر:ابنك الثاني يا شيخ..علي يا شيخ.!
يهب الشيخ من جديد:زغردي يا "عليا" زفي الشهداء يا عليا..زفي العيال يا عليا ..زفوا الشهداء يا أهل الكرك ..
الله اكبر عالظلم ..الله اكبر عالذل ..الله اكبر على كل ظالم..يا نشامى الكرك ..يا أهل الكرك ..الموت ولا الذل..الموت ولا المذلة..غنوا ..هذا عيدنا ..عيد العيال ..علو الصوت ..ردوا على الباشا..خلوا الباشا يسمع."

تصدى أهل الكرك لجيش الباشا إبراهيم ,بأجسادهم العارية وبمقالعهم اليدوية البسيطة, واستماتت الشباب للثأر ..الجميع قاوم,الجميع وقف أمام جبروت الباشا..لا خوف ولا جبن, بكل عزائمهم..بأحجار القلعة التي تدحرجت من فوق الأسوار, تقاوم تقدم الجيش.وتطلق بارود, أشعل كبد السماء
وقف إبراهيم الضمور, بصبر وسكينة المؤمن, يرقب من فوق أحجار القلعة موقع الحريق الهائل, لا تزال الريح تحمل ذرا الرماد المتطاير, فلا تجد إلا أسوار القلعة واجهات يتساقط فوقها.
رماد سيد وعلي رفض إلا الرجوع إلى القلعة, إلى الرحم, إلى الوطن ,تسقط على( شماغ) إبراهيم ,(ومدرقة )"عليا ",تهمس بهدوء وبصوت الريح القادم من موقع الحريق ,يقول للأب المنكوب: ترحم يا أبي علينا وترحم على شبابنا ,وكن قويا فمواكب الشهداء ,البسطاء, العظماء, طريقه من هنا, قادم لنا ,يحملنا إلى أعالي المجد , وسيعود من جديد, وسيستقله آخرون من فوق أسوار القلعة ومن سهول شيحان, ومؤتة ومن ساحات المسجد الأقصى وأسوار القدس ,طالما تواترت الأجيال,فلا بد أن يمر من هنا,فقصة التضحية والفداء نهايتها مفتوحة ,لم يغلق كتاب أسوار القلعة وحجارتها ..مد يداك يا والدنا الشيخ, فقد لامست يدك يد الصحابة الذين مروا. من هنا,و أمسكت بلجام خيل صلاح الدين.
أما أنتِ يا أماه..يا أم الشهداء.. يا "علياء إبراهيم الضمور" ,شرف الرجال, وزغاريد العز فوق سماء الكرك المعطر برائحة جدائلك ألموشحه بألوان حقول القمح ,فصبرك صبر الأمهات عبر التاريخ .وزادك زاد الأمهات الصابرات في آفاق المستقبل والمصير.
في لجة الحدث وحرج القرار ,اقترب إسماعيل ألمجالي من صديقه المنكوب وفي نفسه قرار مبيت:"ادري يا شيخ الوقت صعب,وفي النهاية الشور شورك".
الشيخ وقد أحس بان" الشوفي" يكتم امرأ ويبت عملا:قوول يا الشوفي وخبر.
اقترب إسماعيل ليجلس بجانب الشيخ ويسر له في أذنه, بعد أن تأكد من خلو المجلس إلا منهما:
"مصابنا يا شيخ جلل عظيم ,وما ينسينا واجبنا تجاه الدخيل,أريد اسري بتالي الليل ومعي الدخيل قاصدين معان ,عسانا نصل ارض الحجاز ,ونحتمي بأهلها .وثوراها ضد إبراهيم باشا"
الشيخ وقد تجمعت قواه من جديد :هذا والله الشور الزين يا "خوو خضرا",عفيا عليك يا النشمي!
إسماعيل المجالي ," اخو خضرا" وخضرا بنت كركية استجارت" بالشوفي/إسماعيل" من ظلم حمل مياه عين سارة قرب الكرك لسيدات الحامية العثمانية التي سكنت داخل أسوارها ,"فانتخى لنجدتها, ومنع عن نساء الكرك إجبارهن على حمل المياه إلى القلعة,ومنذ ذلك الحين عرف أبناء المجالي بلقبهم عنوان النخوة"إخوان خضرا"
الشوفي لقب الثقة ,(الشوفي إن وعد يوفي), حمله إسماعيل, على خلفية مواقف حقيقية كان بطلها ومحرك أحداثها ,منها قيادة المقاومة ضد حملة إبراهيم باشا بجانب أخيه وصديقه الشيخ إبراهيم الضمور والد الذبيحين,بطولات ومواقف تحدث عنها الناس وتناقلتها الأجيال في مقاومة العثمانيين, وأحداث من صلب الواقع ,ومن أمام عيون الناس الذين وثقوا بمواقفه وفروسيته الشديدة, وقبضة يده فوق السيف حتى النزف, في ميادين المقاومة والقيادة
إلى بوادي الجنوب محتميا باتساع الصحراء, سرى " الشوفي" "اخو خضرا"عبر بوابة الكرك,حامياً ومنقذاً لشرف الأجير متوجها إلى معان, متكتماً , متفادياً أعين الغرباء ومرتزقة الباشا التي تصطاد الأحرار بدراهم فضية أو ذهبية ,أو ما توفره الفرص من غنائم يجدونها. عبر ترامي الأرض واتساعها وتنوع الدروب ومسالك الحركة والتنقل, في بلاد يعتمد أهلها على الرحيل فلا تجد لهم, مسكن ثابت, يرتحلون خلف معاشهم أينما تواجدت المراعي لمواشيهم, التي كانت منتشرة حتى ارض سيناء,لا قانون, إلا الأعراف العشائرية, ومنطق القوة والحماية,بعد أن انقطعت فيها صلة الدولة بالناس ,فتركت للقبائل قوانينهم, في أيام انتشرت فيها الغزوات ونهب أموال الناس, بمسميات فيها الكثير من مبررات العادات والتقاليد, التي أباحت البحث عن مصادر العيش في ظل حماية العشيرة لأبنائها .الذين حكمت سلوكهم قواعد التشريع البدوي, وعرفت "المقاسم العشائرية" تمتد عبر الصحراء, متعارف عليها بين القبائل الأخرى, ترعى فيها مواشيهم يحميها فرسان فوق خيولهم العربية أصيلة,يتنقلون فيها معتمدين على صيد البراري ,ولعل في ذلك خلفيه تفسر نظرة أبناء العشائر للأعمال اليدوية ,وانعكاسها على مفاهيم العمل والوجاهة في المجتمع الحديث.
كانت نية إسماعيل ألمجالي ورفيقه قاسم الأحمد الاحتماء بأهل معان والقبائل المحيطة بها من بدو الجنوب ومنهم "الحويطات" ,يجوبون صحراء قاحلة ,شديدة ,قاسية ,يختفون بين شعابها نهارا ويمضون بالمسير ليلا متخفين عن أعين المندسين والمنتفعين من أعوان الباشا إبراهيم .
وقف إسماعيل المجالي فوق صخرة مطلة, وصلها ورفيقة الأحمد فجرا بعد مسير ليلي أنهك قواهم , وأثقل مسيرهم .يراقب الأفق الممتد عبر مساحات الصحراء وقد تراءي له سرابها من بعيد ينبئ بشدة القيض وسط النهار.
نظر قاسم إلى رفيقه إسماعيل ,وقد وقف كرمح انغرس فوق صخرة , يتأمل امتداد الأفق أمامه ,ومن داخل احد الكهوف الملتصقة بسفوح الجبال والتلال المنتشرة بين الأراضي الصحراوية ,جلس قاسم الأحمد, يقلب فوق حلقة نار, أُشعلت بشجيرات الشيح والقيصوم ,ارنب صحراوي ,اصطاده اسماعيل ,وهما في طريقهما بحثا عن ملاذ يتقيان فيه حر الصحراء وعيون الباشا.
الاحمد يقطع تاملات اسماعيل, بعد صمت طويل وقد اعتاد عليه بطبعة الهادئ الرزين ,قليل الكلام :بماذا تفكر أخي إسماعيل؟
إسماعيل بصوته الخافت المتأني:"لا بد أن نفترق هنا أخي قاسم, عيون الباشا تعرف أننا نسير معاً, ومن السهل التعرف علينا بعد أن وصلت أخبارنا إلى الباشا وعيونه "
اقترب إسماعيل من حلقة النار ينظر في عيون رفيقه احمد ,يقنعه بصواب قراره :توجه إلى الجنوب عبر الشعاب والوديان ,أما أنا فسأسلك الصحراء علني استطيع جذب انتباههم لحين وصولك سالم بإذن الله"
لم يستطع قاسم أن يتلفظ بالرفض وقد شاهد الإصرار في عيون إسماعيل وجزمه بالقرار.
الأحمد وقد تملكته الحيرة من رفيقة:هكذا يا أخي سيكون من السهل التعرف عليك ووقوعك في قبضتهم!!"
إسماعيل بعزمه وإصراره:لا تخاف يا خووي,,المهم سلامتك..اعمل مثل ما بقولك وتوكل على الله"
الأحمد بصبر واحتساب:لا اله إلا الله.ادعوا لك بالسلامة أخي إسماعيل .جزآك الله كل خير.لا بد أن نلتقي, أحياء أو أموات سنلتقي "
إسماعيل وقد تبسم مستبشراً بوعد اللقاء: لا تنسى اخووي قاسم, أنا الشوفي إن وعدت أوفي"
قبل أن تهبط شمس النهار في مغيبها ,ودع كل منهما الآخر على وعد اللقاء,وقد استشعر كل منهما رهبة الوداع وحمل كل منهما واجب الوفاء.
لكن,كعادتها عيون الغدر, استطاعت الوصول إلى إسماعيل الذي حاصرته قوات الباشا,و نقلته إلى القدس لتنفيذ حكم الإعدام به شنقاً, بعيدا عن أرضه وعزوته ,تنفرد به يد الغدر, ويرى بأم عينيه مشنقته التي نصبت ,على أبواب القدس..يسير إليها صابراً محتسباً, مستشهداً في سبيل الله, حامياً جانب الأجير ومتعهدا بالذود عن الشرف, ليكون بهذه النهاية قد انظم إلى مواكب الشرف والشهادة, التي سبقه لها أبناء الشيخ إبراهيم. تزرع الدروب أكاليل عز وغار.
فوق سفوح الكرك وعلى امتداد الأفق إلى أبواب القدس ,تجتمع الأرواح نقية ,مجاهدة ,تعطر المسافات برائحة المسك المنتشر عبر آفاق الحدود,في تماسك ابدي ,لا يفهم كنهه إلا الشرفاء الأحرار المتجددة عزائمهم في مقاومة أعداء الحرية والإنسانية عبر التاريخ.
بقي قاسم الأحمد وحيدا متنقلا بين القبائل متخفيا عن عيون الباشا, حذرا منهم ,لكن ابن الحضر ,هاجت نفسه لذكريات الأرض والدار, وحلاوة العيش في نابلس ,تعبر في ذهنه ووجدانه, خواطر الأحباب والأهل , ويثور شوقه للروابي, وأشجار الزيتون ,والجلوس في الحقل بين رفقاء المقاومة .
شوق حار يلهب جوانح غريب الدار, كلما هبت رياح الغرب تحمل حبات المطر المتساقطة فوق رمال الصحراء الأردنية .
تشرد ومعاناة وترحيل. ومصير بين الحياة والموت قائم, وخالج قلب عاشق مشتاق يمني النفس بالعودة إلى نابلس متنفساً عبقها, يشده إلى طريق العودة .
توجه قاسم الأحمد إلى السلط توأمة نابلس ,كما هي الكرك توأمة الخليل,عل هناك , من يرطب شوق الأهل والأحباب.
هناك عرف الناس تبادلية الحركة والمصير عبر تلاحم المدن شرقي النهر وغربيه ,تنتقل عبرها الكثير من العائلات لتتأصل بينهم العادات والتقاليد والأنساب … في السلط غايته, ومراده ,فلا بد أن يلتقي بأهل نابلس من التجار والأهالي المتنقلين عبر مسافات الود والمصير بين المدينتين.
في طريقه إلى السلط ,مر قاسم الأحمد بجرف الدراويش والقطرانه,ولم تكن في حينها قد أنشئت سكة الحديد الحجازية بعد, وصولا لديار"قبيلة الصخور",الذين استجار بهم ,وهم عنه ليسوا بغرباء ,لما عرف عن" الصخور" بعلاقاتهم مع أهل نابلس والقدس, يتبادلون في كل منها حاجاتهم من المؤن ويبيعون منتجاتهم فيها, يحملون نبات الجلو .الذي كان يستخدم بدل الصودا الكاوية في صناعة الصابون النابلسي,كما أن "الصخور" تعودوا على تأجير أراضيهم لعائلات نابلسية, تقوم على زراعتها بالقمح والحبوب,
أقام قاسم الأحمد, في حماية الصخور أثناء توجهه إلى السلط .الممتدة مراعيهم من "خان ال....يب" إلى "اليادوده" ,حيث وجد الملاذ من عيون الباشا. رعاه أبناء قبيلة "الصخور" وأحسنوا جانبه ,يقيم في حصن الحصين, عندما تخف حركة الغرباء ويطمئن أبناء القبيلة لإقامته في الحصن,وينقلوه إلى المراعي بين الرعاة والفرسان, في حال استشعارهم بأرجل غريبة في الحمى ,يحمل أخبارها و تنقلاتها عيون القبيلة وفرسانها ,الحامية لخيراتها من النهب والغزو الذي كان سائدا ومستباحا في تلك الأيام.

يبقى القدر والمصير رفيق قاسم في رحلة العودة إلى نابلس ,يشده هواه للأرض ورائحة تراب الوطن ,وتحمله أجنحة الشوق إلى هناك,إلى الأحبة والى أنفاس الوطن التي يحتضنها بجوانحه, تناديه نسمات الصبح تحت شباك الدار, ورائحة الزيت والزعتر الممدود فوق خبز القمح الساخن.
خصوصية المكان في الأوطان,تشتاق إليها القلوب العاشقة الثائرة حتى المقاومة وطلب الشهادة, تزرع الإصرار غاية ووسيلة ,تقدم الأرواح, فوق الأكف الممدودة, تصنع تاريخ الأمم والشعوب ,ترسم خرائط الوفاء والانتماء, بحبر مداده دماء القلب النابض ,بأمل الحياة والرغبة في البقاء الأزلي على ارض الوطن المنهوب .
أفكار تطال الأمل ,تحرك أقدامه ,تسهل خطواته ,تسرع من اندفاعاته,تقفز بين الحين والأخر تدفعه إلى عشقه إلى نابلس:"لا بد أن عيون الباشا قد نسيتني .. العثمانين لن يسمحوا بتمادي إبراهيم باشا وتمرد أبوه الألباني"
أفكار تتوالى تترابط في ذهنية عاشق ثائر:"هل يعتقد هذا الظالم انه يستطيع حكمنا كما حكم مصر بضربة حظ..لا لا .. العثمانيون سيوقفون تقدم الباشا إبراهيم ونواياه التوسعية.. وينتهي ظلمة!!"
قدر هائل, من الأمنيات والتوقعات, خضع لها بشدة العاطفة وحسن السريرة, فاستكان لانبعاث الطيبة التي يحملها قلبه الصادق, وشوقه الكبير للعودة, تجاهل الحذر والتحرك المدروس, تحركه مشاعر التحام الابن بحضن الأرض من جديد, بين غابات البلوط وحقول الزيتون.التشرد داخل الأوطان نعيم في الغربة.
عين الغدر كانت له بالمرصاد,على الدروب, تجار الذل ,يبحثون عن فرص وصفقات ,لغتهم ميكيافلية,ديانتهم ذهب اصفر ,بضائعهم أحرار وشرفاء فوق المشانق وعلى المقاصل.
اغتيال الذات اعتاد عليه مغتصبين الأوطان ,وتلاءم مع مصير قاسم الأحمد .المحب العاشق, ليقتله عشقه, مرتين, وليحكم عليه بالموت مرتين حكم أصدرته عليه نفسه وأشواقه إلى الأرض والوطن, وحكم اغتاله فوق مشانق الظلم مقابل ثلاثين ذهبية أو فضية في يد نذل, امتهن النخاسة في دماء الأحرار.
نصبت من جديد مشنقة, على أبواب القدس ,في نفس المكان, هنا سارت خطى إسماعيل ألمجالي , بثبات تماثلها خطى الأحرار وخطى قاسم الأحمد..كان إسماعيل فوق أسوار القدس ينتظر, على الوعد, يلوح بكوفيته,ابتسم قاسم لرؤية صديقه,من بعيد ,من هناك سمع .صوت إسماعيل يناديه.. يكاد يقترب منه..كلما دنى من حبل المشنقة, كان الصوت ينجلي رويدا..رويدا ,حتى سمعه قاسم الأحمد قبل أن يغمض عينيه إلى الأبد" يا قاسم ..يا قاسم .أنا أخووك الشوفي إن وعد يوفي ..أبشرك .. أبشرك.. أصبحنا أحرارا!

هذه ليست نهاية القصة … فالأحرار يولدون كل يوم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ابراهيم الضمور ..والد الذبيحين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حسين حمود سعيد الضمور (ابوصدام )

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أبناء الكرك  :: المنتدى :: رجال وشخصيات محافظه الكرك-
انتقل الى: